في شهر جمادى الآخرة سنة 13هـ مرض سيدنا أبو بكر رضى الله عنه واشتد به المرض فلما ثقل واستبان له من نفسه جمع الناس إليه فقال : إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتاً لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي ورد عليكم أمركم فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمَّرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي .. فتشاور الصحابة ثم رجعوا إلى أبي بكر فقالوا : رأيُنا يا خليفة رسول الله رأيُك .. قال : فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده .. ثم وقع اختيار أبي بكر رضى الله عنه بعد أن استشار بعض الصحابة على عمر بن الخطاب رضى الله عنه ثم كتب عهداً مكتوباً يُقرأ على الناس وكان نص العهد :

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً فإن عَدَلَ فذلك ظني به وعلمي فيه وإن بَدّلَ فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت ولا أعلم الغيب : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ..

وقد روت أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنه خبر وفاة أبيها أبي بكر رضى الله عنه فقالت : أول ما بُدئ مرض أبي بكر أنه اغتسل وكان يوماً بارداً فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة وكان يأمر عمر بالصلاة وكانوا يعودونه وكان عثمان رضى الله عنه ألزمهم له في مرضه .. وقالت السيدة عائشة رضى الله عنه : قال أبو بكر رضى الله عنه : انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي .. فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه وإذا ناضح البعير الذي يُستقى عليه كان يسقي بستاناً له فبعثنا بهما إلى عمر فبكى عمر وقال : رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعباً شديداً ..

استمر مرض أبي بكر رضى الله عنه مدة خمسة عشر يوماً حتى مات يوم الاثنين ليلة الثلاثاء 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ قالت السيدة عائشة رضى الله عنها : إن أبا بكر قال لها : في أي يوم مات رسول الله ؟ قالت : في يوم الاثنين .. قال : إني لأرجو فيما بيني وبين الليل ففيم كفنتموه ؟ قالت : في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة فقال أبو بكر : انظري ثوبي هذا فيه ردع زعفران أو مشق فاغسليه واجعلي معه ثوبين آخرين فقيل له : قد رَزَقَ الله وأحسن نكفنك في جديد قال : إن الحي هو أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه عن الميت إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى وقد أوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس وأن يدفن بجانب النبي عليه اطيب الصلاة والسلام وكان آخرَ ما تكلم به أبو بكر قولَ الله تعالى : توفني مسلماً وألحقني بالصالحين وتوفي أبو بكر رضى الله عنه وهو ابن ثلاث وستين سنة استوفى سن النبي عليه الصلاة والسلام وغسلته زوجه أسماء بنت عميس ودفن جانب النبي صل الله عليه وسلم وقد جعل رأسه عند كتفي النبي عليه اطيب الصلاة والسلام وصلىّ عليه خليفته عمر بن الخطاب رضى الله عنه ونزل قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن رضوان الله عليهم وألصق اللحد بقبر النبي عليه اطيب الصلاة والسلام ..

ارتجت المدينة لوفاة أبي بكر رضى الله عنه ولم ترى المدينة منذ وفاة الرسول يوماً أكثر باكياً وباكية من ذلك المساء وأقبل علي بن أبي طالب رضى الله عنه مسرعاً باكياً مسترجعاً ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر رضى الله عنه فقال : رحمك الله يا أبا بكر كنت إلفَ رسول الله وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته إلى أن قال : والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله عليه اطيب الصلاة والسلام بمثلك أبداً كنت للدين عزاً وحرزاً وكهفاً فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد عليه اطيب الصلاة والسلام ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك .. فسكت الناس حتى قضى كلامه ثم بكوا حتى علت أصواتهم وقالوا : صدقت ..

#معالم_المدينة_النبوية