
قيام إمارة البرتغال بقيادة ابن الريق
تمكن الموحدون من السيطرة على جزء من أراضي البرتغال، بينما كانت المنطقة الواقعة حول حوض نهر الدويرة إلى حدود جليقية و التي تضم مدن قلمرية و بازو و براغة تؤلف ولاية صغيرة تابعة لمملكة قشتالة. و كان الفونسو السادس قد زوج ابنته غير الشرعية تيريسا
( TERESA )
من أحد نبلاء مقاطعة برجندية الفرنسية و اسمه هنري
(HENRIQUES)
و قدم لهما مهرا هذه المقاطعة، و لكن على شرط تبعيتها هي و زوجها لعرش قشتالة
إلا أن تيرسا وزوجها استغلا اضطراب الأحوال بعد وفاة ألفونسو بغير وريث ذكر، فعملا على الاستقلال بالإمارة الجديدة التي أطلق عليها اسم عاصمتها القديمة برتقال
(PORTUGAL)
ثم قام ابنهما ألفونسو إنريكي
(ALFONSO HENRIQUES)
ابن الريق / الريك في المصادر الأندلسية (1138 / 1185 م)- بإعلان الاستقلال الذاتي أولا حاملا لقب صاحب قلمرية
(COIMBRA)
ثم لم يلبث أن استقل تماما بعد انتصاراته على المسلمين و استيلائه على شنترين ثم على لشبونة في سنة 1147 م و تزايد طموحه بعد ذلك فواصل حملاته على مدن المسلمين الواقعة في حوض وادي آنه
(GUADIANA)
كما انتزع منهم قلعة يابرة
(EVORA )
سنة 1166 م، و أعلن نفسه ملكا على البرتغال” و حكم مملكته من ذلك الحين آمنا لا يزعجه أحد من جيرانه النصارى، منتصرا في محاربة المسلمين”
و أخيرا صدر القرار البابوي المتعلق باستقلال مملكة البرتغال عن قشتالة و ليون، بعد أن طال عليه الأمد، و أصدر البابا إسكندر الثالث بمقتضى مرسوم بابوي في سنة 1179 م، و فيه يمنح ألفونسو أنريكي لقب الملك، و توضع مملكة البرتغال الحرة من كل عهود الجزية تحت حماية الكرسي الرسولي
إن ألفونسو إنريكي ليستحق من جميع الوجوه أن يلقب بمؤسس المملكة البرتغالية. عرف كيف يذكي الحماسة الدينية في نفوس الشعب البرتغالي، و أن يغنم تأييده بإصدار دستور يحقق الحرية و العدالة لكل الطبقات، و يحيط وراثة العرش بضمانات تحول دون نشوب الحرب الأهلية، و يوطد دعائم القومية البرتغالية [7].
إذا كانت السنوات الأخيرة من حكم الخليفة عبد المؤمن (توفي سنة 1163 م) قد شهدت ولادة الدولة البرتغالية و ظهورها على مسرح التاريخ، فإن ابنه يوسف بن عبد المؤمن الخليفة الثاني لم يقف مكتوف اليدين أمام هذا الاستفزاز الذي أبداه الملك البرتغالي ابن الريق. فجهز حملة عسكرية بقيادة أخيه أبي حفص عمر و ذلك سنة 1170 م نحو أراضي البرتغال و ليون و استعاد كل ما خسره المسلمون جنوبي وادي التاجة
(RIOTAJO)
و في سنة 1171 م حاصر الموحدون مدينة شنترين (و هي من أمنع المدائن) [8] بجيش ضخم و لكن دون جدوى، فقد أرغموا على رفع الحصار بعد هزيمة فادحة، و كانت ” البرتغال من بين الممالك النصرانية أشدها وطأة في غزو أراضي الموحدين، و لذا اعتزم أبو يعقوب يوسف، أن يسحق أخطر أعدائه بتفوق قواته بادئ ذي بدء، حتى إذا عم الرعب من جراء انتصاره استطاع أن يخضع الممالك الأخرى بسهولة
و كانت خطته تقضي أولا بمهاجمة مملكة البرتغال من البر و البحر، حتى ضفاف نهر دويرة، ثم الزحف من على ضفاف التاجة و دويرة إلى قلب مملكتي قشتالة و ليون. و حشد لهذه الغاية قوات عظيمة، و اجتمعت إليه فضلا عن الجيوش المغربية الجرارة ، قوى مسلمي الأندلس. إذ بلغ عدد جنوده أكثر من 78 ألف مقاتل، و كذلك اجتمع للمسلمين أسطول عظيم من سفن القتال و سفن النقل، مشحونة بالسلاح و آلات الحصار و المؤن، عند مصبي نهري الوادي الكبير و وادي آنة على أهبة لأن يؤيد البحر جهود الجيش البري ضد البرتغال” [9].
لقد توجه يوسف بن عبد المؤمن على رأس هذه الحملة إلى مدينة شنترين، فضرب الحصار عليها، و كانت خطته أن يسترجعها ثم يسترد لشبونة، و لكن تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن، فقد فشلت خطته بارتباك الجيش و سوء فهم خطته، و لازم سوء الحظ المسلمين، و أصيب الخليفة بطعنة توفي بعدها كما جاء في بعض المصادر. و يذكر صاحب المعجب أن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن قد خرج في جيش و ضايق المدينة -شنترين- و أخذ في قطع ثمارها و إفساد زروعها و شن الغارات على نواحيها. إلا أن العدو كان واثقا من حصانتها و شدة منعتها، فلأها أقواتا و سلاحا، و جلل أسوارها مقاتلة معهم الدرق و القسي و الحراب
فخاف المسلمون هجوم البرد و فيضان النهر فيصعب عليهم عبوره و ينقطع عنهم المدد. فأشاروا على الخليفة بالرجوع إلى إشبيلية، على أن يعودوا إليها مرة أخرى. و وافقهم على ذلك. و لم ينتشر هذا القول كل الانتشار. فكان أول من قوض خباءه و أظهر الأخذ في أهبة الرحيل أبو الحسن المالقي و يدعى – خطيب الخلافة – فعبر في تلك العشية أكثر العسكر النهر، و لم يبق إلا من كان بقرب خباء أمير المؤمنين. و بات الناس يعبرون الليل كله و أمير المؤمنين لا علم له بذلك، فلما رأى الروم عبور العساكر، خرجوا منتهزين الفرصة إلى أمكنتهم في خيل كثيفة فحملوا على من يليهم من الناس، فانهزموا أمامهم، حتى بلغوا خباء الخليفة، فقتل على بابه من عيان الجند خلق كثير، أكثرهم من أعيان الأندلس، و خلص إلى أبي يعقوب فطعن تحت سرته طعنة مات منها بعد أيام يسيرة [10].
و خَلَفَهُ ابنه يعقوب المنصور (1184-1199 م) الذي جمع إلى عظمة السلطان السياسي، رسوخ العقيدة، و شدة الحرص على أحكام الشريعة و سنتها
أما في البرتغال فقد توفي الملك ابن الريق و خلفه ابنه (سانجو الأول)
SANCHO 1
الذي حكم بين 1121-1187 م، فرأى أن يبادر المسلمين بالهجوم، و اتفق أن عددا كبيرا من المحاربين الصليبيين الإنجليز و الألمان كانوا قادمين من فلسطين ، فَرَسَا أسطولهم قبالة لشبونة، و لما كان الوقت متأخرا و قد دنا الشتاء، فقد استطاع سانجو ملك البرتغال أن يحملهم على الاشتراك معه في القيام بغزوة مشتركة ضد المسلمين في ولاية الغرب
و بينما أرسل سانجو إلى مدينتي باجة و يابرة اللتين فقدهما في الأعوام الأخيرة و اللتين لم تكن تحرسهما حاميات قوية، جيشا غزاهما و استولى عليهما، إذ سار الأسطول إلى الجنوب قبالة لسان ولاية الغرب، و أنزل جيشا إلى البر على غرة من المسلمين، و حاصر النصارى في الحال مدينة شلب، و قطعوا عنها موارد الماء، فاضطرت إلى الاستسلام، و عقدت مع الملك سانجو دون علم الصليبيين عهدا بالخضوع، بيد أن ذلك لم ينجها من مصيرها المروع … و قسمت الغنائم وفقا لاتفاق سابق بين الصليبيين، و لكن المدينة كانت من نصيب الملك [11].
كان العداء بين المسلمين و النصارى مستمرا و الهجمات المسيحية على الأندلس في استمرار مما دفع بالخليفة يعقوب المنصور إلى تجهيز حملة على الأندلس في ربيع الأول سنة (585 هـ / 1189 م) ” فارتحل عن الجزيرة الخضراء حتى نزل شنترين و شن الغارات على مدينة لشبونة و أنحائها. و انصرف إلى العدوة 31 ألف سبية من النساء و الذرية
و في سنة (785 ه / 1191 م) كتب إلى قواد الأندلس يأمرهم بغزو بلاد الغرب و يعلمهم أنه قادم عليهم في إثر كتابه، فاجتمع قواد الأندلس إلى محمد بن يوسف والي قرطبة، فخرج بهم في جيش عظيم من الموحدين و العرب و الأندلس حتى نزل شلب فحاصرها, و شد عليها القتال حتى فتحها و فتح قصر أبي دانس و مدينة باجة و يابرة و رجع إلى قرطبة ” [12]
تكررت الحروب و المواجهات بين المسلمين و النصارى، و طلب ألفونسو الثامن ملك قشتالة من الخليفة الموحدي يعقوب المنصور الصلح لمدة 5 سنوات، إلا أنه و قبل انصرام المدة أغار على بلاد المسلمين و حكم بالسيف في رقابهم، و بلغت طلائع جنده الجزيرة الخضراء دون أن تجد أمامهم قوة رادعة. و دفعته نشوة الانتصار إلى أن يوجه رسالة إلى الخليفة الموحدي فيها من الاستهزاء ما أقض مضجع الموحدين، فكان العبور يوم 20 رجب سنة (591 ه / 1195 م) مخترقا قلب إسبانيا إلى أن وصل هضبات الأرك (على بعد 11 كلم من مدينة ثيودادريال)، فكانت المعركة الشهيرة التي انتصر فيها يعقوب المنصور على الإسبانيين و البرتغاليين و تسلق بعدها قمة المجد، و اشتهر اسمه في الشرق و الغرب
غير أن هذا المجد ما فتئ ينذر بالانهيار و خصوصا بعد وفاة الخليفة المنصور و ولاية ابنه محمد الناصر، الذي جهز هو الآخر حملاته على الممالك النصرانية في شبه الجزيرة الإيبيرية فلم يستطع الصمود فحلت به الهزيمة في المعركة المعروفة باسم العقاب، و ذلك سنة (906 ه / 1212 م). فكانت بداية الانهيار لدولة الموحدين و ضياع الممالك الأندلسية ( إسبانيا و البرتغال و جزء من فرنسا)
لائحة المصادر و المراجع
[7] انظر تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين, يوسف أشباخ, ترجمة : محمد عبد الله عنان, الجزء الثاني, ص31و 32, مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1941م
[8] انظر المعجب, للمراكشي, ص372
[9] انظر: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين, يوسف أشباخ, الجزء الثاني, ص71و 72
[10] انظر المعجب, ص373-374-375, وابن أبي زرع في الأنيس المطرب بروض القرطاس, ص214 دار المنصور للطباعة والوراقة, الرباط- 1973م, يوسف أشباخ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين, ص73 مرجع سابق, تاريخ ابن خلدون, الجزء السادس, ص241
[11] انظر تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين, يوسف أشباخ, الجزء الثاني, ص79و 80
[12] انظر الأنيس المطرب بروض القرطاس, لابن أبي زرع, ص218و 219